الحسم الثوري أم الاحتواء السياسي : قراءة في استثنائية النموذج الجنوبي ضمن سياق الثورات التحررية
فؤاد قائد جباري
في التاريخ السياسي، تُجمِع أدبيات الثورات التحررية على أن أي مشروع تحرري لا يمكن له أن يبلغ غايته دو...
في التاريخ السياسي، تُجمِع أدبيات الثورات التحررية على أن أي مشروع تحرري لا يمكن له أن يبلغ غايته دون أن تتسم قيادته بدرجة من الحزم والوضوح تجاه التحديات الداخلية، خصوصًا تلك التي قد تشكل تهديدًا مباشرًا لوحدة الصف الثوري أو لسلامة المشروع الوطني قيد التشكل. لكن لا بد من التمييز هنا بين الحركات الثورية ذات البعد التحرري الجامع، وبين التنظيمات المؤدلجة التي توظف القمع كأداة للاستئثار والهيمنة كما تفعل جماعة الحوثي في شمال اليمن، والتي تعد خارج أي تصنيف ثوري مشروع بحكم ممارساتها الفوقية والطائفية ورفضها للتعدد السياسي والفكري.
لقد أثبتت الثورات الكبرى في التاريخ الحديث – بدءًا من الثورة الفرنسية (1789) – أن مناهضة المشروع الثوري من الداخل غالبًا ما تواجه بحسم قد يبلغ حد العقاب الرادع؛ ففي فرنسا، شهدت البلاد ما عرف بـ"عهد الإرهاب" الذي أعدم فيه المئات من النبلاء ورجال الدين بتهمة معاداة الثورة (المقصلة). وسارت الثورة البلشفية في روسيا (1917) على ذات النهج؛ حيث أطلقت حملات تطهير دموية (إغتيالات وإعدامات) استهدفت المعارضين داخل الحزب وخارجه.
في التجربة الفيتنامية (1945) أيضًا، تعاملت القيادة الثورية بحزم مع المتعاونين مع الاحتلال الفرنسي وفيما بعد الأمريكي؛ إذ شنت حملات إعدام وتصفية خلال حروب الاستقلال، فيما احتجز الآلاف في معسكرات وسط ظروف قاسية بحجة إعادة التأهيل السياسي. أما الثورة الجزائرية (1954)، فقد انتهجت نهج التصفية الميدانية ضد العملاء ورفضت فكرة العفو أو المصالحة معهم. وفي كوبا (1953)، نفذت محاكمات ثورية قادت إلى إعدامات جماعية لأنصار نظام باتيستا — هذا في سبيل الذكر لا الحصر.
وبالنظر إلى هذه النماذج، يمكن القول إن "الحسم الثوري" لم يكن خيارًا طارئًا بل ممارسة شائعة في مسيرة معظم الثورات التحررية في العالم، اتخذت لضمان بقاء المشروع الثوري واستمراريته في وجه الانقسام أو الارتداد، إلا أن التجربة الجنوبية التي يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي تمثل نموذجًا مغايرًا وجديرًا بالدراسة؛ إذ - رغم حيازته لأدوات السلطة والسيطرة في الجنوب، أمنيًا وعسكريًا ومؤسساتيًا - لم يلجأ إلى تكميم الأفواه أو تصنيف مناوئيه كأعداء للثورة، بل أتاح فضاءً عامًا لحرية التعبير غير مسبوق في تاريخ المنطقة، حتى بالمقارنة مع أنظمة ديمقراطية مستقرة؛ فقد احتضنت العاصمة عدن ومناطق أخرى أنشطة لكتّاب وصحفيين وناشطين، بل أحزاب وتنظيمات قادت مظاهرات واحتجاجات ونظمت وقفات.. أي تعمل في العلن ضد سياسات المجلس، دون أن تواجه بالملاحقة أو التصفية أو حتى الإقصاء، طالما لم يتعد الأمر حدود الرأي السلمي ولم يمس حياة الناس أو مصالحهم.
المجلس الانتقالي الجنوبي اختار سياسة الاحتواء بدل الردع الثوري، وفضل الخطاب الوطني الجامع على فخ التصنيفات والتخوين، وهو ما يعد سابقة نوعية في السياق الثوري التحرري. لم تفتح السجون، ولم تنصب المشانق، ولم تنشأ محاكمات ثورية؛ بل ساد نهج عقلاني وواقعي يعكس فهمًا عميقًا لمسؤولية القيادة الثورية في مراحل ما بعد الانطلاق... ويمكن القول إن هذا المسار يمثل علامة فارقة في تاريخ الثورات، حيث يجتمع الطموح التحرري مع احترام التعدد والاختلاف.
وعلى ضوء ذلك، ندرك أن ما ينعم به أبناء الجنوب اليوم من حرية رأي وتنوع سياسي، إنما يعد ثمرة لهذا النهج الواعي، ويدل بوضوح على الرؤية المستقبلية للمجلس الانتقالي الجنوبي في بناء دولة جنوبية تتسع لجميع أبنائها، دولة تدار بالعقل لا بالغلبة، وبالمشروع لا بالشعارات.
إن تجربة المجلس الانتقالي الجنوبي في إدارة الشأن الثوري والسياسي، في ظل ظروف بالغة التعقيد وواقع متخم بالصراع، تمثل نموذجًا فريدًا يستحق الدراسة والتأمل؛ ففي الوقت الذي سلكت فيه أغلب الثورات التحررية عبر التاريخ مسارات حادة تجاه مناوئيها في الداخل، متذرعة بضرورات الحسم ووحدة الصف ، يبرز النموذج الجنوبي بوصفه تجربة مغايرة توازن بين الثوابت الثورية ومبادئ الانفتاح السياسي. ومن هنا، فإن مراجعة التجارب الثورية السابقة على ضوء هذا النموذج الجنوبي قد تفتح أفقًا جديدًا لفهم مسارات الثورة في سياق معاصر، حيث يصبح بناء الدولة واحتواء التعددية هدفًا لا يقل أهمية عن التحرر من الاحتلال.
ومع ذلك، فإن هذا النهج الاحتوائي لا يعني التهاون مع من يهدد أمن الجنوب أو يستهدف مشروعه الوطني؛ فالمسؤولية الثورية تستوجب أيضًا الحزم في مواجهة مشاريع الفوضى والارتهان، بما يحفظ المكتسبات ويصون المسار نحو الدولة الجنوبية المنشودة.