قراءة في كتاب «عيون العجائب» .. عن المتنبي المخترع

صدى الحقيقة : وكالات

لم يكن المتنبي يوماً شاعراً عابراً في التاريخ الثقافي العربي، بل مثّل عبر قرون متعاقبة نموذجاً مركزياً للشاعر الكامل، الجامع بين الفصاحة، والحكمة، والكبرياء. لكن هذه الصورة الراسخة ظلّت أسيرة منهجيات تقليدية في التأويل، ركّزت إما على البعد البلاغي أو السياسي أو الفلسفي بشكل مجزأ.


وفي المقابل، يقدّم كتاب «عيون العجائب في ما أورده أبو الطيب من اختراعات وغرائب»، للدكتور علي بن تميم، محاولة منهجية ناضجة لإعادة تشكيل صورة المتنبي على نحو جديد: لا بوصفه شاعر بلاغة، بل مخترعاً معرفياً أنتج من خلال شعره بنية رمزية تُعيد تعريف الإنسان واللغة والعالم. وفي ضوء ذلك، لا يكتفي الكتاب بتقديم أربعين بيتاً من شعر المتنبي كشواهد على الاختراع الشعري، بل يُعيد تأطيرها بوصفها لحظات مركبة من التجديد والتجاوز الرمزي. كل بيت منها يُقترح على القارئ لا كأثر بلاغي، بل كإنجاز دلالي وفكري، فقد كانت – بتعبير المؤلف – «أربعين بيتاً، شاهداً قاطعاً قاله أبو الطيب المتنبي، يحوي كلٌّ منها اختراعاً شعرياً لم يُسبق به، وابتكاراً حار لأجله الشراح، وطرحاً شعرياً وتفكيرياً ونقدياً وحضارياً، كان له السبق فيه».


وقد يتبادر إلى الذهن عند مطالعة كتاب «عيون العجائب» سؤال: لماذا أربعون بيتاً تحديداً؟ من الناحية الشكلية، إن القصائد المركزية في ديوان المتنبي غالباً ما تدور حول أربعين بيتاً تزيد أو تنقص قليلاً، وهي الظاهرة التي تكاد تشكّل نمطاً فنياً ثابتاً في بنية القصيدة لديه. إلا أن هذا السبب البنيوي لا يكفي لتبرير العدد على نحو مفهومي. فالعدد أربعون في شعر المتنبي ليس رقماً عبثياً، بل يستدعي شبكة من الدلالات الرمزية والبلاغية تتجلى بوضوح في بيته:

فَبَعَثْنَا بِأَرْبَعِينَ مِهَاراً
           كُلُّ مُهْرٍ مَيْدَانُهُ إِنْشَادُه


في هذا البيت، يستعير المتنبي صورة «الأربعين مهراً» بوصفها رسائل شعرية، كل واحدة منها تحمل طابعاً منفرداً وميداناً خاصاً. وهو بذلك لا يختار العدد ككمية، بل كمقاربة رمزية لـ «تمام القول». فكل مهر - أي كل بيت أو قصيدة - ليس مجرد وحدة لغوية، بل ساحة إنشاد واختبار لفرادة الذات.


من هذا المنطلق، يصبح اختيار أربعين بيتاً في عيون العجائب ليس تجميعاً كمياً، بل صياغة رمزية لبنية التمام الشعري عند أبي الطيب. فكل بيت منها يمثل «مهراً» خاصاً، يجري في ميدانه اللغوي والتأويلي، ويُظهر من خلاله لحظة اختراع أو سبْق أو تجاوز.


ولعل المؤلف، وهو يستعيد هذه الصورة، أراد أن يُشير ضمناً إلى أن هذه الأبيات الأربعين ليست مختارات اعتباطية، بل هي إرساليات رمزية تحاكي وعي المتنبي بذاته وشعره. وكأن الكتاب ذاته يتقمص دور «المرسِل الشعري»، فيبعث بأربعين بيتاً إلى القارئ، على هيئة «مهور لغوية» كل منها ميدانه الإنشاد والتفكير معاً.


ويُظهر التحليل أن المتنبي في هذه النماذج لم يكن يتفنّن في اللفظ وحده، بل كان يخترع صياغات شعورية وفكرية عابرة للعصر، تحتمل التأويل، وتوحي بمواقف تتعلّق بالكينونة والهوية والمعنى. ولهذا، جاء توصيف المؤلف في غاية الدقة حين قال: «لو سحبنا ديوان أبي الطيب من المكتبة الشعرية العربية فإن عمودها القوي سينهار، بل إننا لن نستطيع فهم الشعر العربي وتطور حتى الشعرية العربية المعاصرة».


من هنا، تنبع أهمية هذه الدراسة التي حرصت على رصد طرائق الاختراع عند أبي الطيب، ليس من باب الوصف، بل من باب التأسيس لنموذج معرفي جديد في قراءة الشعر العربي، يُعيد الاعتبار للشاعر بوصفه عقلاً منتجاً، لا صوتاً مُكرِّراً.

ولعل ما يقدم به المؤلف دراسته يلخّص مسعاها الأعمق، إذ يقول: «فالعالم بشعر أبي الطيب عالم بتاريخ العرب وشعرهم وفلسفتهم، فقد كان مخترعاً عظيماً مُطَّلعاً على الثقافات الأخرى، وينظر إلى أسلافه من الشعراء ويتحداهم ليتجاوزهم، ويأتي بما لم يأتِ به أحد قبله. من هنا سرّ تعلق الكثير بشعره وأنا منهم، ونأمل أن تكون هذه الدراسة فاتحة لدراسات أخرى عن طرائق الاختراع المختلفة عند المتنبي، بل وعن مفهوم الاختراع في الأدب العربي عامة».

 

ثانياً: تحليل النماذج الشعرية  

يُقدّم الدكتور علي بن تميم في هذا الكتاب أربعين نموذجاً من شعر المتنبي، يُختار كل منها بوصفه لحظة من لحظات الاختراع، ويتم تفكيكه على ثلاثة مستويات:

- المستوى البلاغي: حيث يكشف المؤلف كيف أن الصورة الشعرية لا تتكرر، بل تُستولد من منطق خاص بالشاعر.

- المستوى المفاهيمي: حيث يُستخرج المعنى الكامن وراء الصور، وتُربط بموضوعات فلسفية كالمصير، والعزلة، والكبرياء.

- المستوى التاريخي: حيث تُربط الأبيات بسياقها السياسي والاجتماعي، ما يمنح القراءة عمقاً تأويلياً متجذراً.

على سبيل المثال، حين يقول المتنبي:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ
                 فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

لا يُقرأ هذا البيت كبلاغة طموح، بل كنموذج مبكر لوعي وجودي يتجاوز فكرة القدر، ويجعل من الطموح الفردي شرطاً للكينونة.

وفي بيت آخر:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
               وأسمعت كلماتي من به صممُ

يفكّك المؤلف هذا الادعاء لا بوصفه مفاخرة، بل كإعلان عن قوة القول حين يبلغ حدّ التجاوز الفيزيائي، فيصبح الشعر سلطة تتخطى الجسد والحدود.

واللافت، أن المؤلف يقوم بالانتقال من الحكاية إلى النظام، حيث التحليل المتكرر للنماذج يكشف عن وجود نظام شعري داخلي متماسك في فكر المتنبي. فليس كل بيت يحمل اختراعاً منعزلاً، بل تتكرّر فيه أنماط لغوية دالة على بناء رمزي أشبه ما يكون بـ «نسق ذاتي»:

• الذات دائماً في المركز.
• السلطة دائماً في موقع التفاوض أو التحدي.
• الزمن يُعاد تركيبه ليتماشى مع كينونة الشاعر.

ولا يعني هذا الثبات في البنية، أي نوع من التكرار، بل الإلحاح الوجودي على بناء عالم مستقل داخل النص.

 

ثالثاً: موقع المتنبي الجديد  

من خلال البناء المنهجي للكتاب، ينجح المؤلف في إعادة تصنيف المتنبي في الذاكرة العربية، ليس فقط كأعظم شعراء العربية، بل بوصفه مفكراً شعرياً أنتج نموذجاً وجودياً خاصاً من خلال اللغة.

وبذلك، لا يعود المتنبي صوت مرحلة، بل يُصبح منتجاً للوعي، وحالة رمزية كبرى تعبّر عن العقل العربي في أعلى درجات احتدامه مع السلطة والتاريخ واللغة.

ويضع هذا التأويل الجديد المتنبي في تماس مع مفاهيم حديثة في نظرية الأدب والفكر السياسي، مثل:
- السيادة الذاتية
- اللغة بوصفها سلطة رمزية
- الشعر كخطاب مضاد لواقع أليم

وبالتالي، فإن «عيون العجائب» لا يقرأ المتنبي بأدوات قديمة، ولا يفرض عليه حداثة خارجية، بل يستخرج من داخل شعره إمكانات فكرية قابلة للتفعيل في الحاضر.


رابعاً: الإطار الفني والدلالة الجمالية المصاحبة

يمتاز الكتاب بإخراج بصري رصين يتناغم مع عمق المحتوى:

- الغلاف الأمامي يستثمر صورة رمزية لفارس عربي يحمل كتاباً، في إشارة دقيقة إلى المتنبي كمقاتل معرفي.
- الهوية اللونية تجمع بين البني والذهبي، بما يعكس الروح التراثية والوقار العلمي.
- الصفحات الداخلية تخضع لتنظيم بصري هادئ: هوامش متسعة، خطوط عربية مريحة، وتنسيق يميز بين النص والتحليل دون فواصل صادمة.

ويعكس التصميم انتماء العمل إلى مؤسسة ثقافية عريقة (مركز أبوظبي للغة العربية)، تعتني بمضمون الكتاب كما تعتني بإخراجه، ليُقدَّم بوصفه مشروعاً بصرياً متكاملاً، لا مجرد نص مطبوع.

خاتمة
وتأسيساً على كل ذلك، يمثّل كتاب «عيون العجائب» قطيعة هادئة مع قرون من القراءة الخطابية لشعر المتنبي، ويقدم بديلاً تأويلياً يجمع بين التحليل المفاهيمي، والتأصيل البلاغي.

حيث يتحول المتنبي فيه من شاعر لغة إلى مخترع دلالات. وتأتي البنية الفنية للكتاب لتُكمل هذا الطرح، فتمنح المتلقي تجربة قرائية ممتعة بصرياً ومعرفياً معاً.

بهذا المعنى، لا يُعد «عيون العجائب» مجرد دراسة أدبية، بل وثيقة نقدية تسعى إلى إعادة بناء مفهوم الشعر في الثقافة العربية من خلال استعادة شعر المتنبي لا بوصفه نصاً موروثاً، بل باعتباره حقلاً مفتوحاً لأسئلة العقل والمعنى والاختراع، بأدوات مفهومية قادرة على التجاوز والإبداع.